انتفاضة الجامعات- غزة تشعل نارًا تحت الرماد الأمريكي

المؤلف: د. عبد الله معروف08.10.2025
انتفاضة الجامعات- غزة تشعل نارًا تحت الرماد الأمريكي

لم يخطر ببال رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، وهي تستدعي الشرطة لفض اعتصام طلابي مناهض للحرب على غزة، أنها ستشعل فتيل انتفاضة واسعة النطاق، تتجاوز أسوار الجامعات الأمريكية العريقة وتمتد لتشمل جامعات مرموقة في مختلف أنحاء العالم، خاصة في القارة الأوروبية.

ومن اللافت أن تكون شرارة هذه الأحداث قد انطلقت من جامعة ترأسها أكاديمية مصرية الأصل، ولدت في الإسكندرية قبل أن ترحل عائلتها إلى بريطانيا ثم الولايات المتحدة وتحمل جنسيتهما. فمصر، الجارة اللصيقة بقطاع غزة المحاصر، تشكل بوابته الوحيدة إلى العالم. والأستاذة المصرية، دون قصد منها، فتحت الباب أمام إيصال صوت غزة إلى أروقة الجامعات الأمريكية، مما أدى إلى اندلاع انتفاضة طلابية قد تكلف الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، وإدارته ثمنًا باهظًا في الانتخابات الرئاسية القادمة.

إن هذه الانتفاضة الطلابية التي بدأت في جامعة كولومبيا ليست الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة. ففي ستينيات القرن الماضي، شهدت أمريكا حركتين مماثلتين ضد الحرب في فيتنام – والتي بدأت أيضًا في جامعة كولومبيا – وفي الثمانينيات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

نجحت الحركة الطلابية آنذاك في إحداث تحول مجتمعي واسع، أثر بشكل غير مباشر على السياسة الخارجية الأمريكية، مما أدى إلى انسحابها من فيتنام وفرض عزلة دولية على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهو النظام الذي كانت الولايات المتحدة من أشد داعميه، الأمر الذي ساهم في نهاية المطاف في سقوطه وتفككه.

يبدو أن هذا التاريخ قد أثار فزع اللوبي الداعم لإسرائيل في الولايات المتحدة، فاندفع إلى استخدام كافة الأساليب المتاحة لإخماد هذه الحركة الطلابية، بدءًا باتهامها بمعاداة السامية، وصولًا إلى اتهامها بدعم الإرهاب. لكن الطلاب أثبتوا هذه المرة أن هذه الاتهامات الجاهزة، التي كانت تنجح في الماضي في كبح أي تحرك مناهض لإسرائيل، لم تعد قادرة على ترهيبهم أو إجبارهم على التراجع عن مواقفهم.

شعرت إسرائيل نفسها بالهلع، وتجاوز الأمر حدود التدخلات المعهودة، فوصل إلى حد تدخل بنيامين نتنياهو شخصيًا في شأن داخلي أمريكي، وحرض علنًا على قمع حركة الطلاب، الأمر الذي اعتبره بعض الصحفيين الأمريكيين تدخلًا سافرًا وفجًا في الشؤون الداخلية الأمريكية.

ثم جاء جلعاد أردان، مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، ليعلن أمام العالم تصريحًا سرياليًا زعم فيه أن إسرائيل "اكتشفت" أن حماس "تختبئ" في جامعتي هارفارد وكولومبيا! والأغرب من ذلك، أن بعض الساسة الأمريكيين لجأوا إلى أساليب قمعية مستوحاة من أنظمة "العالم الثالث"، حيث استأجروا بلطجية للاعتداء على المتظاهرين في جامعة كاليفورنيا، وهو ما يذكرنا بأسلوب "المواطنين الشرفاء" الذي استخدمته بعض الأنظمة في الماضي لقمع التظاهرات.

هذه الحركة الطلابية المتنامية في الجامعات الأمريكية، والتي بدأت تنتشر خارجها، أثارت تساؤلات في العالم العربي والإسلامي حول دور الجامعات العربية والإسلامية في ظل الأحداث الجارية في غزة، وعن سبب الهدوء النسبي الذي تشهده هذه الجامعات مقارنة بما يحدث في الجامعات الأمريكية والأوروبية.

أرى أن هذه المقارنة غير عادلة لعدة أسباب، فالأمر يتطلب فهم طبيعة الاختلافات الجوهرية في الحياة الجامعية والعامة بين الولايات المتحدة والدول الغربية من جهة، والدول العربية والإسلامية من جهة أخرى. ولا أقصد هنا الممارسات الديمقراطية والحريات النسبية الأوسع في الغرب، بل طبيعة وشكل الحراك الاجتماعي الطلابي الذي يختلف باختلاف طبيعة المجتمع نفسه.

ففي العالم العربي، يجب الاعتراف بأن طلبة الجامعات كانوا دائمًا القوة الأسرع تحركًا والأكثر حضورًا في الشارع خارج أسوار الجامعات. وحصار طلبة الأردن للسفارة الإسرائيلية لأكثر من أسبوعين خلال شهر رمضان المبارك هو مجرد مثال على طبيعة الحراكات الطلابية في العالم العربي والميدان الذي تتحرك فيه.

إضافة إلى ذلك، لا تكاد الجامعات التركية تمر بأسبوع دون مظاهرات في مختلف الجامعات، مما يشكل حالة عامة للطلاب تعبر عن غضب الشارع تجاه الأحداث الجارية، وترد على بعض الساسة الأتراك الذين هاجموا المقاومة الفلسطينية. وقد تجلى ذلك قبل أيام حين نشر طلاب لوحات في خطوط المترو في إسطنبول ترد على رئيس بلدية المدينة، أكرم إمام أوغلو، الذي وصف حركة حماس بالإرهاب. وهذا ما نراه أيضًا لدى طلاب الجامعات في دول أخرى مثل المغرب ومصر وغيرها، عبر حراكات في الشوارع، وليس بالضرورة بأسلوب الاعتصامات في الجامعات كما يحدث في الولايات المتحدة.

يكمن الفارق الأساسي بين هذه التحركات وحركة الجامعات الأمريكية في أن الأولى تجري في بلدان يعتبر الرأي العام فيها متعاطفًا بشكل كبير مع الشعب الفلسطيني، على عكس الوضع في الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وهذا فارق جوهري يضاف إلى فارق الحقوق المدنية وحقوق التعبير التي يتمتع بها العالم الغربي بشكل أكبر نسبيًا من المنطقة العربية.

لابد من الإشارة هنا إلى أن هناك تقصيرًا بالفعل في الحالة العربية الشعبية والرسمية تجاه الأحداث الجارية في غزة، قياسًا بحجم المعاناة غير المسبوقة التي يتعرض لها القطاع في ظل حملة الإبادة الحقيقية. وهذا يجعل أي تحرك مجتمعي أو سياسي في المنطقة المحيطة بالأراضي الفلسطينية يبدو قليل الأثر، إذا ما قورن بالوحشية الإسرائيلية في غزة، والتي تجعل أي تحرك لا يسفر عن وقف هذه المجازر الوحشية يبدو غير كاف.

ولكن من ناحية أخرى، يجب التأكيد على أن تراكم هذه الأعمال بشكل متتال ومتنوع، وتصاعد الغضب العالمي بشكل تدريجي، هو أمر يجب البناء عليه، بل هو الاتجاه الطبيعي لدى الشعوب. فحركة الشعوب عادة ما تكون بطيئة مقارنة بحجم الأحداث، ولكن في المقابل، فإن التحرك الشعبي، عندما يحدث، يكون فعالًا وقويًا ومزلزلًا، لأنه مبني على تراكم الانفعالات، حتى تتحول إلى تيار جارف لا يمكن الوقوف في وجهه.

وهذا ما يحدث في العالم العربي والغربي اليوم على حد سواء، فالغضب يتصاعد ويتراكم تدريجيًا، وفي لحظة فارقة لا يمكن لأحد تحديدها، يمكن أن يتحول هذا الغضب إلى حراك عارم. ولعل هذا ما يفسر الحراك الطلابي الأمريكي أيضًا في هذا السياق.

فالطلاب الأمريكيون يرون أن ضرائبهم تذهب منذ سنوات لدعم ومساندة إسرائيل بمباركة اللوبي الصهيوني ومنظمات مثل إيباك وغيرها. ومن أبرز إشارات هذا التململ الطلابي الشبابي خلال السنوات الماضية كان الدعم الكبير الذي حظي به السيناتور الديمقراطي اليهودي بيرني ساندرز، المنتقد علانية لإسرائيل، لدى طلبة الجامعات الأمريكية عام 2016، للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لمواجهة هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية. كانت تلك إشارة قوية كان على الساسة الأمريكيين أن يدركوها ليفهموا طبيعة التحولات في المجتمع الطلابي الأمريكي الذي يشكل مستقبل التوجه العام للمجتمع الأمريكي.

لكن يبدو أن الساسة الديمقراطيين لم يستوعبوا تلك الرسالة، واستمروا في تجاهل التحولات في المجتمع الطلابي الأمريكي، لتأتي أحداث حرب غزة الحالية وتطلق العنان للحراك الطلابي بشكل غير مسبوق بعد تراكمات استمرت سنوات طويلة.

ولا أرى ما يشير إلى أن هذه الحالة لا تنطبق أيضًا على العالم العربي، وقد رأينا مسبقًا تراكمات أدت إلى انفجار ثورات كان عمودها الفقري من طلبة الجامعات. وبرأيي، على ساسة العالم أجمع، والعالم العربي على وجه الخصوص، أن ينتبهوا إلى شكل وطبيعة حراك الطلبة وأن يستجيبوا له، بدلًا من محاولة معاندته أو قمعه، لأنه المظهر الأبرز لطبيعة تحولات الشارع. فمن لم يفطن لهذه المعادلة المتكررة تاريخيًا، فسيجد نفسه خارجها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة